فصل: تفسير الآيات رقم (16- 21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيِّنَاتٍ‏}‏ يعني‏:‏ قريشاً، ‏{‏مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِئَابَائِنَا‏}‏ أي‏:‏ يا محمَّد، أَحْيِ لنا قُصَيًّا حتى نَسْأَلَهُ، إلى غَيْرِ ذلك من هذا النحو، فنزلت الآية في ذلك، ومعنى ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أي‏:‏ في قولكُمْ أَنَّا نُبْعَثُ بعد الموت‏.‏

ثم أمر اللَّه تعالى نَبِيَّه أنْ يخبرَهم بالحال السابقة في علم اللَّه التي لا تُبَدَّلُ بأَنَّه يحيي الخلق ثم يميتهم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر الآية،، وباقي الآية بَيِّنٌ‏.‏

و ‏{‏المبطلون‏}‏‏:‏ الداخلون في الباطل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً‏}‏ هذا وصفُ حالِ القيامة وهولها، والأُمَّةُ‏:‏ الجماعة العظيمة من الناس، وقال مجاهد‏:‏ الأُمَّةُ‏:‏ الواحد من الناس؛ قال * ع *‏:‏ وهذا قلق في اللغة، وإنْ قيل في إبراهيمَ «أُمَّة» وفي قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، فذلك تَجوُّزٌ على جهة التشريف والتشبيه، و‏{‏جَاثِيَةً‏}‏ معناه‏:‏ على الرُّكَب؛ قاله مجاهد وغيره، وهي هَيْئَة المُذْنِبِ الخَائِفِ، وقال سُلَيْمَانُ‏:‏ في القيامة ساعَةٌ قَدْرُ عَشْرِ سنين، يَخِرُّ الجميعُ فيها جُثَاةً على الرُّكَبِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ أُمَّةٍ تدعى إلى كتابها‏}‏ قالت فرقة‏:‏ معناه‏:‏ إلى كتابها المُنَزَّلِ عليها، فَتُحَالكَمُ إِليه، هل وافقته أو خالفته‏؟‏ وقالت فرقة‏:‏ أراد إلى كتابها الذي كتبته الحَفَظَةُ على كل واحد من الأُمَّةِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هذا كتابنا‏}‏ يحتمل أنْ تكون الإشارة إلى الكتب المُنَزَّلَةِ، أو إلى اللوح المحفوظ أو إلى كُتُبِ الحَفَظَةِ؛ وقال ابن قُتَيْبَةَ‏:‏ إلى القرآن‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ قال الحَسَنُ‏:‏ هو كُتُبُ الحَفَظَةِ على بني آدمَ، وروى ابن عباس وغيره حديثاً؛ أَنَّ اللَّه تَعالى يَأْمُرُ بِعَرْضِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ، فَيُنْقَلُ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَتْ تَرَفَعُ الحَفَظَةَ كُلُّ مَا هُوَ مُعَدٌّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، وَيُلْغَى البَاقِي؛ فهَذَا هُوَ النَّسْخُ من أَصْلٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ * فِى رَحْمَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ في جَنَّتِهِ‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ‏}‏ أي‏:‏ فيقال لهم‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ وقرأ حمزة وحده‏:‏ «وَالسَّاعَةَ» بالنصب؛ عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏وَعْدَ الله‏}‏، وقرأ ابن مسعود‏:‏ «وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا»، وباقي الآية بيِّن‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سيئات مَا عَمِلُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، حكايةُ حالِ يوم القيامة ‏{‏وَحَاقَ‏}‏ معناه‏:‏ نزل وأحَاطَ، وهي مُسْتَعْمَلَة في المَكْرُوهِ، وفي قوله‏:‏ ‏{‏مَّا كَانُواْ‏}‏ حذفُ مضافٍ، تقديره‏:‏ جزاءَ ما كانوا به يستهزئُون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ‏}‏ معناه‏:‏ نترككم كما تركتم لقاءَ يومكم هذا، و‏{‏آيَاتِ الله‏}‏ هنا‏:‏ لفظ جامعٌ لآِيات القرآن وللأدِلَّةِ التي نَصَبَهَا اللَّهُ تعالى، للنَّظَرِ، ‏{‏وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يُطْلَبُ منهم مراجعةٌ إلى عملٍ صَالِحٍ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السموات الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر السورة تحميدٌ للَّه عزَّ وجلَّ، وتحقيقٌ لأُلُوهِيَّتِهِ، وفي ذلك كَسْرٌ لأمرِ الأصنامِ وسائرِ ما تعبده الكَفَرَةُ، و‏{‏الكبرياء‏}‏‏:‏ بناءُ مبالغةٍ‏.‏

سورة الأحقاف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حم* تَنزِيلُ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًى والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ‏}‏‏:‏ هذه الآية موعظة، وزَجْرٌ، المعنى‏:‏ فانتبهوا أَيُّهَا الناسُ، وانظروا ما يُرَادُ بكم ولِمَ خُلِقْتُمْ، «والأَجَلُ المسمى»‏:‏ هو يَوْمُ القيامةِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ‏}‏ ‏[‏معناه‏:‏‏]‏ ما تَعْبُدُونَ، ثم وقفهم على السموات؛ هَلْ لهم فيها شِرْكٌ، ثم استدعى منهم كتاباً مُنَزَّلاً قبل القرآن يتضمَّن عبادَةَ الأَصْنَامِ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ هذه الآية مِنْ أَشْرَفِ آية في القرآن؛ فإنَّها استوفَتِ الدَّلالَةَ على الشرائع عَقْلِيِّهَا وسَمْعِيِّها؛ لقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السموات‏}‏ فهذا بيانٌ لأدِلَّة العَقْلِ المتعلِّقة بالتوحيدِ، وحُدُوثِ العالم، وانفراد البارِي تعالى بالقدرة والعِلْمِ والوجُودِ والخَلْقِ، ثم قال‏:‏ ‏{‏ائتونى بكتاب مِّن قَبْلِ هذا‏}‏‏:‏ على ما تقولون، وهذا بيان لأدلَّة السَّمْعِ؛ فَإنَّ مدرك الحق إنما يكون بدليل العقل أو بدليل الشرع، حسبما بَيَّنَّاهُ من مراتب الأدِلَّة في كتب الأصول، ثم قال‏:‏ ‏{‏أَوْ أثارة مِّنْ عِلْمٍ‏}‏ يعني‏:‏ أو عِلْمٍ يؤْثَرُ، أي‏:‏ يروى ويُنْقَلُ، وإنْ لم يكن مكتوباً، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أثارة‏}‏ معناه‏:‏ أو بَقِيَّةٍ قديمةٍ من عِلْمِ أحد العلماءِ، تقتضي عبادة الأصنام، و«الأثارة» البَقِيَّةُ من الشيء، وقال الحسنُ‏:‏ المعنى‏:‏ من عِلْمٍ تستَخْرِجُونَهُ فتثيرونه، وقال مجاهدٌ‏:‏ المعنى‏:‏ هل مِنْ أَحَدٍ يأثر علماً في ذلك، وقال القرطبيُّ‏:‏ هو الإسناد؛ ومنه قول الأعشى‏:‏ من ‏[‏السريع‏]‏

إنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا *** بُيِّنَ لِلسَّامِعِ وَالآثِرِ

أي‏:‏ وللمُسْنِدِ عن غيره، وقال ابن عباس‏:‏ الأثارة‏:‏ الخَطُّ في التراب، وذلك شيْءٌ كانَتِ العَرَبُ تفعله، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غافلون‏}‏ هو للأصنام في قول جماعة، ويحتمل أنْ يكون لِعَبَدَتِهَا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏8‏)‏ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً‏}‏ وَصْفُ ما يكون يومَ القيامةِ بَيْنَ الكُفَّار وأصنامهم من التَّبَرِّي والمُنَاكَرَةِ، وقد بُيِّنَ ذلك في غير هذه الآية‏.‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ أي‏:‏ آيات القرآن، ‏{‏قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ يُفَرِّقُ بين المرءِ وَبَنِيهِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً‏}‏ المعنى‏:‏ إنِ افتريته، فاللَّه حَسْبِي في ذلك، وهو كان يعاقبني ولا يُمْهِلُنِي، ثم رجَعَ القَوْلُ إلى الاستسلامِ إلى اللَّه، والاستنصارِ به عليهم، وانتظارِ ما يَقْتَضِيهِ عِلْمُهُ بما يُفِيضُونَ فيه مِنَ البَاطِلِ ومُرَادَّة الحَقِّ، وذلك يقتضي مُعَاقَبَتَهُمْ؛ ففي اللفظ تهديد، والضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ عائدٌ على اللَّه عزَّ وجَلَّ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الغفور الرحيم‏}‏ تَرجيةٌ واستدعاءٌ إلى التوبة، ثم أمره عزَّ وجلَّ أنْ يحتجَّ عليهم بأَنَّه لم يكن بِدْعاً من الرسل، والبِدْعُ والبَدِيعُ من الأشياءِ ما لم يُرَ مِثْلُهُ، المعنى‏:‏ قد جاء قَبْلِي غيري؛ قاله ابن عَبَّاس وغيره‏.‏

* ت *‏:‏ ولفظ البخاريِّ‏:‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏بِدْعاً مِّنَ الرسل‏}‏ أي‏:‏ لَسْتُ بأوَّلِ الرُّسُلِ، واختلف الناسُ في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ‏}‏ فقال ابن عباس وجماعةٌ‏:‏ كان هذا في صَدْرِ الإسْلاَمِ، ثم بعد ذلك عَرَّفَهُ اللَّه عزَّ وجلَّ بأَنَّه قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّرَ، وبأَنَّ المؤمنين لهم من اللَّه فضلٌ كبيرٌ، وهو الجَنَّةُ، وبأَنَّ الكافرين في نار جَهَنَّمَ؛ والحديثُ الصَّحِيحُ الذي وقع في جنازة عُثْمانَ بنِ مَظْعُونٍ يُؤَيِّدُ هذا، وقالت فرقة‏:‏ معنى الآية‏:‏ وما أدري ما يُفْعَلُ بي ولا بكم من الأوامر والنواهي، وقيل غير هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ‏}‏ معناه‏:‏ الاِستسلامُ والتَّبَرِّي من عِلْمِ المُغَيَّبَاتِ، والوقوفُ مع النذارةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إسراءيل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، جوابُ هذا التوقيفِ محذوفٌ، تقديره‏:‏ أَلَيْسَ قد ظلمتم‏؟‏‏!‏ ودَلَّ على هذا المُقَدَّرِ قولُهُ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ هذه الآية مدنية، والشاهد عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ، وقد قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ‏:‏ فيَّ نَزَلَتْ، وقال مَسْرُوقُ بْنُ الأجْدَعِ والجمهورُ‏:‏ الشاهد موسَى بْنُ عِمْرَانَ عليه السلام، والآية مكية، ورَجَّحَه الطَّبْرِيُّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على مِثْلِهِ‏}‏ يريد بالمثل التوراةَ، والضمير عائد في هذا التأويل على القرآن، أي‏:‏ جاء شاهد من بني إسرائيل بمثله أَنَّه من عند اللَّه سبحانه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَئَامَنَ‏}‏، على هذا التأويل، يعني به تصديقَ موسى وتبشيرَهُ بِنَبِيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ‏}‏ أي‏:‏ مِنْ قَبْلِ القرآنِ ‏{‏كِتَابُ موسى‏}‏ يعني‏:‏ التوراة ‏{‏وهذا كتاب‏}‏ يعني القرآن ‏{‏مُّصَدِّقُ‏}‏ للتوراة التي تَضَمَّنَتْ خبره، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «مُصَدِّقٌ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» و‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ هم‏:‏ الكفار، وعَبَّرَ عن المؤمنين بالمحسنين؛ ليناسِبَ لفظ «الإحسان» في مقابلة «الظلم»‏.‏

ثم أخبر تعالى عن حُسْنِ ‏[‏حال‏]‏ المستقيمين، وذهب كَثِيرٌ من الناس إلى أَنَّ المعنى‏:‏ ثم استقاموا بالطاعات والأعمال الصالحات، وقال أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه المعنى‏:‏ ثم استقاموا بالدَّوَامِ على الإيمان؛ قال * ع *‏:‏ وهذا أَعَمُّ رجاءً وأَوْسَعُ، وإن كان في الجملة المؤمنة من يُعَذَّبُ وَيَنْفُذُ عليه الوعيد، فهو مِمَّنْ يَخْلُدُ في الجَنَّةِ، وينتفي عنه الخوفُ والحُزْنُ الحَالُّ بالكَفَرَةِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ قد جعل اللَّه سبحانه الأعمالَ أَمَارَاتٍ على ما سَيَصِيرُ إليه العَبْدُ، لا أَنَّهَا توجب على اللَّه شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان‏}‏ يريد‏:‏ النوع، أي‏:‏ هكذا مَضَتْ شرائِعِي وكُتُبِي، فَهِيَ وَصِيَّةٌ من اللَّه في عباده، وبِرُّ الوالدَيْنِ واجبٌ، وعُقُوقُهُمَا كبيرةٌ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كُلُّ شَيْءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ إلاَّ شَهَادَةَ أَنْ لاَ إله إلاَّ اللَّه، وَدَعْوَةَ الْوَالِدَيْنِ ‏"‏ قال * ع *‏:‏ ولن يَدْعُوَا في الغالب إلاَّ إذا ظلمَهُمَا الوَلَدُ، فهذا يَدْخُلُ في عُمُومِ قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ اتَّقُوا دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ‏"‏ ثم عَدَّدَ سُبْحَانَهُ عَلَى الأبْنَاءِ مِنَنَ الأُمَّهَاتِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً‏}‏ قال مجاهد، والحسن، وقتادة‏:‏ حملته مَشَقَّةً، ووضعته مَشَقَّةً، قال أبو حَيَّان‏:‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ‏}‏ على حَذْفِ مضافٍ، أي‏:‏ مدَّة حمله، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثَلاَثُونَ شَهْراً‏}‏ يقتضى أَنَّ مُدَّة الحمل والرَّضَاعِ هي هذه المُدَّةُ، وفي البقرة‏:‏ ‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ فيترتب من هذا أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الحَمْلِ سِتَّةُ أَشهر، وأقلَّ ما يَرْضَعُ الطفْلُ عَامٌ وتسعَةُ أشْهُرٍ، وإكمال الحولَيْنِ هو لمن أراد أَنْ يُتِمَّ الرضاعة، وهذا في أمد الحَمْلِ، هو مذهب مالك وجماعة من الصحابة، وأقوى الأقوال في بلوغ الأَشُدِّ ستةٌ وثلاثُونَ سنَةً، قال * ع *‏:‏ وإنَّما ذكر تعالى الأربعين؛ لأَنَّها حَدٌّ للإنسان في فلاحه ونَجَابَتِهِ، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجُرُّ يَدَهُ على وَجْهِ مَنْ زادَ عَلَى الأَرْبَعِينَ وَلَمْ يَتُبْ، فَيَقُولُ‏:‏ بِأَبِي، وَجْهٌ لاَ يُفْلِحُ ‏"‏‏.‏ * ت *‏:‏ وحَدَّثَ أبو بَكْرِ ابْنُ الخَطِيبِ في «تاريخِ بَغْدَادَ» بسنده المُتَّصِلِ عن أنسٍ، قال‏:‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذَا بَلَغَ الْعَبْدُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنَ البَلاَيَا الثَّلاَثِ‏:‏ الجُنُونِ، وَالجُذَامِ وَالْبَرَصِ، فَإذا بَلَغَ خَمْسِينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُ الحِسَابَ، فَإذَا بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً رَزَقَهُ اللَّهُ الإنَابَةَ لِمَا يُحِبُّ، فَإذَا بَلَغَ سَبْعِينَ سَنَةً غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَشُفِّعَ في أَهْلِ بَيْتِهِ، وَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ‏:‏ هَذَا أَسِيرُ اللَّهِ في أَرْضِهِ ‏"‏ انتهى، وهذا واللَّه أعلم في العبد المُقْبِلِ على آخرته، المشتغل بطاعة ربه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَوْزِعْنِى‏}‏ معناه‏:‏ ادفع عني الموانع، وأَجِرْنِي من القواطع؛ لأجل أنْ أشكرَ نعمتك، ويحتمل أنْ يكون ‏{‏أَوْزِعْنِى‏}‏ بمعنى‏:‏ اجعل حَظِّي ونصيبي، وهذا من التوزيع‏.‏

* ت *‏:‏ وقال الثعلبيُّ وغيره ‏{‏أَوْزِعْنِى‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ألهمني، وعبارة الفَخْر‏:‏ قال ابن عباس ‏{‏أَوْزِعْنِى‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ألهمني، قال صَاحِبُ «الصِّحَاحِ» استوزعت اللَّهَ فَأَوْزَعَنِي، أي‏:‏ استَلْهَمْتُهُ فألْهَمَنِي، انتهى، قال ابن عباس ‏{‏نِعْمَتَكَ‏}‏‏:‏ في التوحيد و‏{‏صالحا ترضاه‏}‏‏:‏ الصلواتِ، والإصلاحُ في الذُّرِّيَّةِ‏:‏ كونُهم أَهْلَ طاعة وخيرٍ، وهذه الآية معناها‏:‏ أَنْ هاكذا ينبغي للإنسان أنْ يَكُونَ، فهي وَصِيَّةُ اللَّه تعالى للإنسان في كُلِّ الشرائع، وقولُ مَنْ قال‏:‏ إنَّها في أبي بكر وأبويه ضعيف؛ لأَنَّ هذه الآية نزلت بمَكَّةَ بلاَ خِلاَفٍ، وأبو قُحَافَةَ أَسْلَمَ عامَ الفتح، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ دليلٌ على أَنَّ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان‏}‏ إنما أراد به الجِنْسَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِى أصحاب الجنة‏}‏ يريد‏:‏ الذين سبقت لهم رحمةُ اللَّه، قال أبو حَيَّان ‏{‏فِى أصحاب الجنة‏}‏ قيل‏:‏ ‏{‏فِى‏}‏ على بابها، أي‏:‏ في جملتهم؛ كما تقول‏:‏ أَكْرَمَنِي الأمِيرُ في نَاسٍ، أي‏:‏ في جملةِ مَنْ أَكْرَمَ، وقيل‏:‏ ‏{‏فِى‏}‏ بمعنى مع، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذى قَالَ لوالديه‏}‏ قال الثعلبيُّ‏:‏ معناه‏:‏ إذ دَعَوَاهُ إلى الإيمان، ‏{‏أُفٍّ لَّكُمَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، انتهى، و‏{‏الذى‏}‏ يعنى به الجِنْسِ على حَدِّ العموم في التي قبلها في قوله‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان‏}‏؛ هذا قول الحسن وجماعة، ويشبه أَنَّ لها سبباً من رَجُلٍ قال ذلك لأبويه، فلما فرغ من ذكر المُوَفَّقِ، عَقَّبَ بذكر هذا العَاقِّ، وقد أنكرتِ عائِشَةُ أنْ تكونَ الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بَكْر، وقالت‏:‏ مَا نَزَلَ في آلِ أبي بَكْرٍ مِنَ القُرْآنِ غَيْرُ بَرَاءَتِي‏.‏

* ت *‏:‏ ولا يُعْتَرَضُ عليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثَانِيَ اثنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ ولا بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 22‏]‏ كما بَيَّنَّا ذلك في غير هذه الآية، قال * ع *‏:‏ والأَصوبُ أنْ تكونَ الآية عامَّةً في أَهل هذه الصفات، والدليلُ القاطعُ على ذلك‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول فِى أُمَمٍ‏}‏ وكان عبدُ الرحمن بن أبي بكر رضي اللَّه عنه من أفاضل الصحابة، ومن أبطال المسلمين، ومِمَّنْ له في الإسلام غَنَاءٌ يومَ اليمامة وغيره، و‏{‏أُفٍّ‏}‏ بالتنوين قراءة نافع وغيره، والتنوينُ في ذلك عَلاَمَةُ تنكيرٍ؛ كما تَسْتَطْعِمُ رَجُلاً حَدِيثاً غَيْرَ مُعَيَّنٍ فتقول‏:‏ «إيهٍ» منونةً، وإنْ كان حديثاً مُشَاراً إليه قلت‏:‏ «إيهِ» بغير تنوين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ‏}‏ المعنى‏:‏ أَنْ أُخْرَجَ مِنَ القَبْرِ إلى الحَشْرِ، وهذا منه استفهامٌ بمعنى الهُزْءِ والاِستبعاد‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى‏}‏ معناه‏:‏ هَلَكَتْ ومَضَتْ، ولم يخرجْ منهم أحد، ‏{‏وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله‏}‏ يعني‏:‏ الوالدَيْنِ يقُولاَنِ له‏:‏ ‏{‏وَيْلَكَ ءَامِنْ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَا هذا إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ أي‏:‏ ما هذا القول الذي يتضمَّنُ البَعْثَ من القبور إلاَّ شيءٌ سَطَرَهُ الأَوَّلُون في كتبهم، يعني‏:‏ الشرائعَ، وظاهر ألفاظ هذه الآية أَنَّها نزلَتْ في مُشَارٍ إليه، قال‏:‏ وقِيلَ له، فنعى اللَّه إلينا أقواله؛ تحذيراً من الوقوع في مثلها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ ظاهره أَنَّها إشارة إلى جنْسٍ، و‏{‏حَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ أي‏:‏ قول اللَّه‏:‏ إنَّهُ يُعَذِّبُهُم؛ قال أبو حَيَّان ‏{‏فِى أُمَمٍ‏}‏ أي‏:‏ في جملة أُمَمٍ ف«في» على بابها، وقيل‏:‏ ‏{‏فِى‏}‏ بمعنى مع، وقد تقدم ذلك، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس‏}‏ يقتضى أَنَّ الجِنَّ يموتون، وهكذا فَهِمَ الآية قتادة، وقد جاء حديثٌ يقتضى ذلك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ درجات‏}‏ يعني‏:‏ المحسنين والمُسِيئِين، قال ابن زيد‏:‏ ودرجات المحسنين تذهبُ عُلْواً، ودرجاتُ المسيئين تذهب سُفْلاً، وباقي الآية بَيِّنٌ في أَنَّ كُلَّ امرئ يجتني ثَمَرَةَ عَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أو شَرٍّ، ولا يُظْلَمُ في مجازاته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ واذكر يومَ يُعْرَضُ، وهذا العرض هو بالمباشرة ‏{‏أَذْهَبْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم‏:‏ ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِى حياتكم الدنيا‏}‏ و«الطَّيِّبَاتُ» هنا‏:‏ المَلاَذُّ، وهذه الآية، وإنْ كانت في الكُفَّار، فهي رادعة لأُولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمالِ الطَّيِّبَاتِ؛ ومن ذلك قولُ عُمَرَ رضي اللَّه عنه‏:‏ أتَظُنُّونَ أَنَّا لا نَعْرِفُ طَيِّبَ الطَّعَامِ‏؟‏ ذلك لُبَابُ البُرِّ بِصِغَارِ المعزى، ولكنِّي رأيتُ اللَّه تعالى نعى على قومٍ أَنَّهم أَذْهَبُوا طَيِّبَاتِهِمْ في حياتِهِمُ الدنيا، ذكَرَ هذا في كلامِهِ مع الرَّبيع بْنِ زِيَادٍ، وقال أيضاً نحو هذا لخالد بن الوَلِيدِ حينَ دَخَلَ الشَّامَ، فَقُدِّمَ إليه طعام طَيِّبٌ، فقال عمر‏:‏ هذا لنا، فما لفقراءِ المسلمينَ الَّذِينَ ماتوا ولم يَشْبَعُوا من خُبْزِ الشَّعِير‏؟‏ فقال خالدٌ‏:‏ لَهُمُ الجَنَّةُ، فبكى عُمَرُ، وقال‏:‏ لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا في الحُطَامَ، وذَهَبُوا بالجَنَّةِ فَقَدْ بَانُوا بُوْناً بَعِيداً، وقال جابرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ اشتريت لحماً بدرهم، فرآني عمر، فقال‏:‏ أَوَكُلَّمَا اشتهى أَحَدُكم شَيْئاً اشتراه فأكَلَهُ‏؟‏‏!‏ أما تخشى أنْ تكون من أهل هذه الآية، وتلا‏:‏ ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِى حياتكم الدنيا‏}‏ * ت *‏:‏ والآثار في هذا المعنى كثيرةٌ جِدًّا، فمنها ما رواه أبو داود في سُنَنِهِ، عن عبد اللَّه بن بُرَيْدَةَ أَنَّ رجُلاً من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، رَحَلَ إلى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وهو بِمَصْرَ، فَقَدِمَ عليه، فقال‏:‏ أَمَا إنِّي لم آتِكَ زَائِراً ولكنْ سَمِعْتُ أَنا وأَنْتَ حَدِيثاً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَجَوْتُ أَنْ يكونَ عندَكَ منْهُ عِلْمٌ، قال‏:‏ ما هو‏؟‏ قال‏:‏ كذا وكذا، قال‏:‏ فمالي أَرَاكَ شَعْثاً وأَنْتَ أَمِيرُ الأَرْضِ‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان ينهى عن كثيرٍ من الإرفَاهِ، قال‏:‏ فمالي لا أرى عَلَيْكَ حِذَاءً‏؟‏ قال‏:‏ كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يأمرنا أَنْ نَحْتَفِيَ أحياناً، وروى أبو داوُدَ عَنْ أَبي أُمَامَةَ قال‏:‏ ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يوماً عنده الدنيا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَلاَ تَسْمَعُونَ أَنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإيمَانِ‏؟‏ إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإيمَانِ، إن الْبَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ ‏"‏ قال أبو داوُدَ‏:‏ يعني‏:‏ التَّقَحُّلَ، وفسر أبو عمر بن عبد البَرِّ‏:‏ «البَذَاذَةَ» بِرَثِّ الْهَيْئَةِ، ذكر ذلك في «التمهيد»، وكذلك فَسَّرَهَا غيره، انتهى،، وروى ابن المبارك في «رقائقه» من طريق الحسن عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَرَجَ في أَصْحَابِهِ إلَى بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمُ اللَّهُ مِنْهُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُم‏!‏ ثُمَّ أَقْبَلَ على أَصْحَابِهِ، فَقَالَ‏:‏ هَؤُلاَءِ خَيْرٌ مِنْكُمْ؛ قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إخْوانُنَا، أَسْلَمْنَا كَمَا أَسْلَمُوا، وَهَاجَرْنَا كَمَا هَاجَرُوا، وَجَاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا، وَأَتَوا على آجَالِهِمْ فَمَضَوْا فِيهَا وَبَقِينَا في آجالِنَا، فَمَا يَجْعَلُهُمْ خَيْراً مِنَّا‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ هَؤُلاَءِ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَخَرَجُوا وَأَنا الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ، وإنَّكُمْ قَدْ أَكَلْتُمْ مِنْ أُجُورِكُمْ، وَلاَ أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ مِنْ بَعْدِي‏؟‏ قال‏:‏ فَلَمَّا سَمِعَهَا الْقَوْمُ عَقَلُوهَا وَانْتَفَعُوا بِهَا، وَقَالُوا‏:‏ إنَّا لَمُحاسَبُونَ بِمَا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا، وَإنهُ لَمُنْتَقَصٌ بِهِ مِنْ أُجُورِنَا ‏"‏

انتهى، ومنها حديثُ ثَوْبَانَ في «سنن أَبي دَاوُدَ»‏:‏ قال ثَوْبَانُ‏:‏ كانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سَافَرَ كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ بِإنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ فَاطِمَةَ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَاطِمَةَ، فَقَدِمَ مِنْ غَزَاةٍ، وَقَدْ عَلَّقَتْ مِسْحاً أوْ سِتْراً على بَابِهَا، وَحَلَّتِ الحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ قُلْبَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَظَنَّتْ أَنَّما مَنَعَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَا رأى؛ فَهَتَكَتِ السِّتْرَ، وَفَكَّتِ القُلْبَيْنِ عَنِ الصَّبِيَّيْنِ وَقَطَعَتْهُمَا عَنْهُمَا، فانطلقا إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْكِيَانِ، فَأَخَذَهُمَا مِنْهُمَا، وَقَالَ‏:‏ يَا ثَوْبَانُ، اذهب بِهِمَا إلَى آلِ فُلاَنٍ؛ إنَّ هَؤُلاَءِ أَهْلِي أَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلُوا طَيِّبَاتِهِمْ في حَيَاتِهُمْ الدُّنْيَا، يَا ثَوْبَانُ، اشتر لِفَاطِمَةَ قَلاَدَةً مِنْ عَصْبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ» انتهى، * ص *‏:‏ قرأ الجمهور‏:‏ «أَذْهَبْتُمْ» على الخبر، أي‏:‏ فيقال لهم‏:‏ أذهبتم طَيِّبَاتكم، وابن كثير بهمزة بعدها مَدَّة مُطَوَّلَةً، وابن عامر بهمزتين حَقَّقَهما ابن ذَكْوَانَ، ولَيَّنَ الثانيةَ هشامٌ وابن كثير في روايةٍ، والاستفهامُ هنا على معنى التوبيخ والتقريرِ، فهو خبر في المعنى، ولهذا حَسُنَتِ الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏، ولو كان استفهاما مَحْضاً لما دخلَتِ الفاء، انتهى، و‏{‏عَذَابَ الهون‏}‏ هو الذي اقترن به هوانٌ، فالهُونُ والهَوَانُ بمعنى‏.‏

ثم أمر تعالى نِبِيَّه بذكر هود وقومه عادٍ؛ على جهة المثال لقريشٍ، وقد تقدَّم قَصَصَ عادٍ مُسْتَوفًى في «سورة الأعراف»، فلينظر هناك، والصحيحُ من الأقوال أَنَّ بلادَ عادٍ كانت باليمن، ولهم كانَتْ إرَمُ ذاتُ العمادِ، و‏{‏بالأحقاف‏}‏‏:‏ جَمْعُ «حِقْفٍ» وهو الجبل المستطيل المُعْوَجُّ من الرَّمْلِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏{‏خَلَتِ‏}‏ معناه‏:‏ مَضَتْ إلى الأرض الخَلاَءِ، و‏{‏النذر‏}‏ جمع نَذِيرٍ، وقولهم‏:‏ ‏{‏لِتَأْفِكَنَا‏}‏ معناه‏:‏ لِتَصْرِفَنَا، وقولهم‏:‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ تصميم منهم على التكذيب، وتعجيزٌ له في زعمهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 26‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ قال لهم هود‏:‏ إنَّ هذا الوعيد ليس من قِبَلِي، وإنما الأمر فيه إلى اللَّه، وعِلْمُ وقته عنده، وإنَّما عَلَيَّ أَنْ أُبَلِّغَ فقطْ، والضميرُ في ‏{‏رَأَوْهُ‏}‏ يحتمل أنْ يعودَ على العذاب، ويحتمل أنْ يعودَ على الشيء المرئِيِّ الطالِعِ عليهم، وهو الذي فَسَّرَهُ قوله‏:‏ ‏{‏عَارِضاً‏}‏ و«العَارِض»‏:‏ هو ما يَعْرِضُ في الجَوِّ من السحاب المُمْطِر؛ قال ابن العربيِّ في «أحكامه» عند تفسيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏‏:‏ كُلُّ شيء عَرَضَ، فقد مَنَعَ، ويقال لِمَا عَرَضَ في السماء من السحاب‏:‏ «عارِضٌ»؛ لأَنَّه مَنَعَ من رؤيتها ومن رؤية البدر والكواكب، انتهى، ورُوِيَ في معنى قوله‏:‏ ‏{‏مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ‏}‏؛ أَنَّ هؤلاء القومَ كانوا قد قَحَطُوا مُدَّةً، فطلع هذا العارض من جهة كانوا يُمْطَرُونَ بها أبداً، جاءهم من قِبَلِ وادٍ لهم يسمونه المُغِيثَ، قال ابن عباس‏:‏ ففرحوا به، وقالوا‏:‏ هذا عارضٌ مُمْطِرُنا، وقد كذب هودٌ فيما أوعد به، فقال لهم هُودٌ عليه السلام‏:‏ ليس الأمر كما رأيتم، بل هو ما استعجلتم به في قولكم‏:‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ «مُمْطِرُنَا قَالَ هُودٌ‏:‏ بَلْ هُوَ رِيحٌ» بإظهار المُقَدَّرِ و‏{‏تُدَمِّرُ‏}‏ معناه‏:‏ تُهْلِكُ، و«والدمار»‏:‏ الهلاك، وقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّ شَئ‏}‏ ظاهره العموم، ومعناه الخُصُوصُ في كُلِّ ما أُمِرَتْ بتدميره، وروي أَنَّ هذه الريح رمتهم أجمعين في البَحْرِ‏.‏

ثم خاطب جلَّ وعلا قريشاً على جهة الموعظة بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ‏}‏ فَ«مَا» بمعنى «الذي»، و«إن» نافية وقعتْ مكان «مَا» لمختلف اللفظ، ومعنى الآية‏:‏ ولقد أعطيناهُمْ من القُوَّةِ والغنى والبَسْطِ في الأموال والأجسامِ ما لم نُعْطِكُمْ، ونالهم بسَبَبِ كُفْرِهِمْ هذا العَذَابُ؛ فأنتم أحرى بذلك؛ إذا تماديتم في كفركم، وقالت فرقة‏:‏ «إنْ» شرطية، والجواب محذوف، تقديره‏:‏ في الذي إنْ مَكَّنَّاكم فيه طغيتم، وهذا تَنَطُّعٌ في التأويل، و«ما» نافية في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا أغنى عَنْهُمْ‏}‏؛ ويقوِّي ذلك دخولُ «مِنْ» في قوله‏:‏ ‏{‏مِّن شَئ‏}‏، وقالت فرقةٌ‏:‏ بل هي استفهامٌ؛ على جهة التقرير؛ و‏{‏مِّن شَئ‏}‏ على هذا تأكيدٌ؛ وهذا على غير مذهب سيبَوَيْهِ في دخول «مِنْ» في الجواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، مخاطبة لقريشٍ على جهة التمثيلِ ‏{‏وَصَرَّفْنَا الايات‏}‏ يعني‏:‏ لهذه القرى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، يعني‏:‏ فهلا نَصَرَتْهُمْ أصنامُهُمْ، «بل ضَلُّوا عنهم» أي‏:‏ انتلفوا عنهم وقت الحاجة ‏{‏وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ‏}‏ إشارةٌ إلى قولهم في الأصنامِ‏:‏ إنها آلهةٌ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ يحتمل أَنْ تكون «ما» مصدريةً، فلا تحتاج إلى عائد، ويحتمل أَنْ تكون بمعنى «الذي» فهناك عائد محذوف، تقديره‏:‏ يَفْتَرُونَهُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 33‏]‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏30‏)‏ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏32‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ابتداءُ، ابتداءُ وَصْفِ قِصَّةِ الجِنِّ ووفادتهم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد اختلفت الرُّوَاةُ هِنَا‏:‏ هَلْ هذا الجِنُّ هُمُ الوَفْدُ أوِ المُتَجَسِّسُونَ‏؟‏ واختلفتِ الرواياتُ أيضاً عنِ ابنِ مَسْعُودٍ وغيرهِ في هذا الباب‏.‏

والتحرير في هذا أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاءه نَفَرٌ من الجِنِّ دون أَنْ يَشْعُرَ بهم، وهم المتجسِّسون المتفرِّقون من أَجْلِ رَجْمِ الشُّهُبِ الذي حَلَّ بِهِمْ، وهؤلاءِ هُمُ المرادُ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1‏]‏ ثم بعد ذلك وفد عليه وَفْدُهُمْ؛ حَسْبَمَا وَرَدَ في ذلك من الآثار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نَفَراً‏}‏ يقتضي أَنَّ المصروفين كانوا رجالاً لا أنثى فيهم، والنَّفَرُ والرَّهْطُ هم‏:‏ القوم الذين لا أنثى فيهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ‏}‏ فيه تَأَدُّبٌ مع العلم، وتعليم كيف يُتَعَلَّمُ ‏{‏فَلَمَّا قُضِىَ‏}‏ أي‏:‏ فرغ من تلاوة القرآنِ واستماع الجن، قال جابر بن عبد اللَّه وغيرُه‏:‏ إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَرَأَعليهم سورة «الرحمن» فكان إذَا قال‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 13‏]‏ قالوا‏:‏ لا بشَيْءٍ مِنْ آلائك نُكَذِّبُ، رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، ولَمَّا وَلَّتْ هذه الجملةُ تفرَّقَتْ على البلاد مُنْذِرَةً لِلْجِنِّ، وقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا كتابا‏}‏ يَعْنُونَ‏:‏ القرآن‏.‏

* ت *‏:‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ موسى‏}‏ يحتمل أَنَّهُمْ لم يعلموا بِعِيسَى؛ قاله ابن عباس، أوْ أَنَّهم على دِينِ اليهودِ، قاله عطاء؛ نقل هذا الثعلبيُّ، ويحتمل ما تَقَدَّم ذِكْرَه في غير هذا، وأَنَّهم ذكروا المُتَّفَقَ عليه، انتهى‏.‏

‏{‏مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ وهي التوراة والإنجيل، وداعي اللَّه هو محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَآمِنُواْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ باللَّه ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

* ت *‏:‏ وذكر الثعلبيُّ خلافاً في مُؤمني الجِنِّ، هل يُثَابُونَ على الطاعةِ ويدخُلُونَ الجَنَّة، أو يُجَارُونَ من النار فقطْ‏؟‏ اللَّه أعلم بذلك، قال الفخر‏:‏ والصحيحُ أَنَّهم في حُكْمِ بني آدم يستحِقُّون الثوابَ على الطاعة، والعقابَ على المعصية، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى؛ قال الضَّحَّاكُ‏:‏ يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، انتهى، وقد تَقَدَّمَ ما نقلناه عن البخاريِّ في سورة الأنعام؛ أَنَّهُمْ يُثَابُونَ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ يحتملُ أَنْ يكون مِنْ تمامِ كلام المُنْذِرِين، ويحتمل أَنْ يكونَ من كلام اللَّه عزَّ وجلَّ، و«المُعْجِزُ»‏:‏ الذاهبُ في الأَرض الذي يُعْجَزُ طالِبَهُ؛ فلا يَقْدِرُ عليه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ الضمير لقريش؛ وذلك أَنَّهم أنكروا البعث وعَوْدَ الأجساد، وهُمْ مع ذلك معترِفُونَ بأَنَّ اللَّه تعالى خَلَقَ السموات والأَرْضَ، فَأُقِيمَتْ عليهم الحُجَّةُ مِنْ أقوالهم * ص *‏:‏ قال أبو حَيَّان‏:‏ والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بِقَادِرٍ‏}‏ زائدةٌ،، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار‏}‏ المعنى‏:‏ واذكرْ يومَ، وهذا وعيدٌ لكفَّار قريشٍ وغيرهم، وهذا عَرْضُ مباشرةٍ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ هذا بالحق‏}‏ أي‏:‏ يقال لهم‏:‏ أليس هذا بالحق‏؟‏ ‏{‏قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا‏}‏ فصدَّقوا بذلك حيث لا ينفعهم التصديقُ، فَرُوِيَ عن الحَسَنِ؛ أنه قال‏:‏ إنَّهم لَيُعَذَّبُونَ في النارِ، وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أَنَّهُ العَدْل‏.‏

واخْتُلِفَ في تعيين أُولى الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، ولا محالةَ أَنَّ لكل نبيٍّ ورسولٍ عَزْماً وصَبْراً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ‏}‏ معناه‏:‏ ولا تستعجلْ لهم عذاباً؛ فإنَّهم إليه صائرون، ولا تَسْتَطِلْ تعميرَهُمْ في هذه النِّعْمَةِ؛ فَإنَّهم يوم يَرَوْنَ العذاب كأنهم لَم يَلْبَثُوا في الدنيا إلاَّ ساعةً لاِحتقارهم ذلك؛ لأَنَّ المنقضيَ من الزمان يصير عَدَماً‏.‏

* ت *‏:‏ وإذا علمتَ أَيُّها الأخُ أَنَّ الدنيا أضغاثُ أحْلاَم، كان من الحزم اشتغالُكَ الآنَ بتَحْصِيلِ الزادِ لِلْمَعَاد، وحِفْظِ الحَواسِّ، ومراعاةِ الأنفاس، ومراقبة مَوْلاَك، فَآتَّخِذْهُ صاحباً، وذَرِ الناس جانباً؛ قال أبو حامد الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه‏:‏ اعلم أَنَّ صاحبك الذي لا تفارقُهُ في حَضَرِكَ وسَفَرِكَ، ونَوْمِكَ ويَقَظَتِكَ، بل في حياتك، وموتك هو رَبُّك، ومولاك، وسَيِّدُك، وخالقك، ومهما ذكرتَهُ فهو جَلِيسُكَ؛ إذ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي ‏"‏، ومهما انكسر قلبُكَ حُزْناً على تَقْصِيرِكَ في حق دِينِكَ، فهو صَاحِبُكَ ومُلاَزِمُكَ؛ إذْ قال‏:‏ «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبهمْ مِنْ أَجْلِي» فلو عرفته يا أخي حَقَّ معرفتِهِ لاَتَّخذْتَهُ صَاحِباً، وتركْتَ الناَّسَ جانباً، فإنْ لم تَقْدِرْ على ذلك في جميع أوقاتك، فَإيَّاكَ أنْ تُخْلِيَ ليلَكَ ونهارَكَ عَنْ وَقْتٍ تخلُو فيه بموْلاَكَ، وتَلذَّذُ بمناجاتِهِ، وعند ذلك فعليكَ بآدَابِ الصُّحْبَةِ مع اللَّه تعالى، وآدابُهَا‏:‏ إطراقُ الطَّرْفِ، وجَمْعُ الهَمِّ، ودَوَامُ الصَّمْتِ، وسُكُونُ الجَوَارِحِ، ومُبَادَرَةُ الأَمْرِ، واجتنابُ النَّهْي، وقِلَّةُ الاِعتراضِ عَلَى الْقَدَرِ، ودَوَامُ الذِّكْرِ باللسان، ومُلاَزَمَةُ الفِكْر، وإيثارُ الحَقِّ، واليَأْسُ من الخَلْقِ، والخضوعُ تحْتَ الهيبَةِ، والانْكِسَارُ تحت الحياء، والسُّكُونُ عن حِيَلِ الكَسْب ثِقَةً بالضَّمَان، والتَوَكُّلُ على فَضْل اللَّه معرفةً بحسن اختياره؛ وهذا كله ينبغي أنْ يكون شعارَكَ، في جميع لَيْلِكَ ونَهَارِك، فإنَّهُ آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك، والخلق كُلُّهم يفارقُونَكَ في بَعْضِ أوقاتك،، انتهى من «بداية الهداية»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلاَغٌ‏}‏ يحتمل معانيَ‏:‏

أحدُهَا‏:‏ أَنْ يكون خبر مبتدإ محذوفٍ، أي‏:‏ هذا إنذارٌ وتبليغٌ‏.‏

ويحتمل أنْ يريد‏:‏ كأنْ لم يلبثوا إلاَّ ساعةً كانَتْ بلاغَهُمْ، وهذا كما تَقُولُ‏:‏ متاعٌ قليلٌ، وقيل غَيْرُ هذا، وقرأ أبو مِجْلَزٍ وغَيره‏:‏ ‏{‏بَلَغٌ‏}‏ على الأمر، وقرأ الحسنُ بْنُ أبي الحَسَنِ‏:‏ ‏{‏بَلاَغٌ‏}‏ بالخفْضِ نعتاً ل ‏{‏نَّهَارٍ‏}‏‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون‏}‏ وقُرِئ شَاذاً‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يُهْلَكُ‏}‏ ببناء الفعل للفاعل، وفي هذه الآية وعيدٌ مَحْضٌ، وإنذارٌ بَيِّنٌ؛ وذلك أَنَّ اللَّه عز وجل جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئةَ بمثلها، وغفر الصغائر باجتنابِ الكبائرِ، ووعد الغفرانَ على التوبة، فلن يهلك على اللَّه إلاَّ هالَكَ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم قال الثعلبيُّ‏:‏ يقال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون‏}‏ أرجى آية في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين‏.‏

سورة محمد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏1‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أعمالهم‏}‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏‏:‏ إشارةٌ إلى أَهْلِ مَكَّةَ الذين أَخْرَجُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ إشارةٌ إلى الأنصار الذين آووا، ونصروا، وفي الطائفتين نزلتِ الآيتان؛ قاله ابن عباس ومجاهد، ثم هي بَعْدُ تَعُمّ كُلَّ مَنْ دخل تحت ألفاظها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَضَلَّ أعمالهم‏}‏ أيْ‏:‏ أَتْلَفَهَا، ولم يجعلْ لها نَفْعاً‏.‏

* ت *‏:‏ وقد ذكَرْنا في سورة «الصف» أنَّ اسم محمد صلى الله عليه وسلم لم يَتَسَمَّ به أحدٌ قبله إلاَّ قَوْمٌ قليلُونَ، رجاءَ أَنْ تكونَ النُّبُوَّةُ في أبنائهم، واللَّهُ أَعْلَمُ حيثُ يَجْعَلُ رسالاته، قال ابن القَطَّانِ‏:‏ وعن خَلِيفَةَ وَالِدِ أَبِي سُوَيْدٍ قال‏:‏ سألْتُ محمَّدَ بْنَ عَدِيِّ بن أبي رَبِيعَةَ‏:‏ كيف سَمَّاكَ أبوك محمَّداً‏؟‏ قال‏:‏ سأَلتُ أبي عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فقال لي‏:‏ كُنْتَ رَابِعَ أربعةٍ من بني غَنْمٍ أنا فيهم، وسفيانُ بْنُ مُجَاشِعِ بْنِ جَرِيرٍ، وأُمَامَةُ بْنُ هِنْدِ بْنِ خِنْدِف‏.‏ ويزيدُ بنُ رَبِيعَةَ، فخرجْنا في سَفْرَةٍ نُرِيدُ ابنَ جَفْنَةَ مَلِكَ غَسَّانَ، فلما شارفنا الشام، نزلنا على غَدِيرٍ فيه شجراتٌ، وقُرْبَهُ شَخْصٌ نائمٌ، فتحدَّثْنَا فاستمع كلاَمَنَا، فَأَشْرَفَ علَيْنَا، فقال‏:‏ إنَّ هذه لُغَةٌ، ما هي لغة هذه البلاد، فقلنا‏:‏ نَحْنُ قومٌ من مُضَرَ، فقال‏:‏ مِنْ أَيَّ المُضَرِيِّينَ‏؟‏ قلنا‏:‏ من خِنْدِف، قال‏:‏ إنَّهُ يُبْعَثُ فيكم خاتَمُ النبيِّين، فَسَارِعُوا إلَيْه، وخُذُوا بحظِّكُمْ منه تَرْشُدُوا، قلنا‏:‏ ما اسمه‏؟‏ قال‏:‏ محمَّد، فَرَجَعْنَا، فَوُلِدَ لِكُلِّ واحدٍ مِنَّا ابْنٌ سَمَّاه محمَّداً، وذكره المدائنيُّ، انتهى‏.‏

وقوله تعالى في المؤمنين‏:‏ ‏{‏وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ‏}‏ قال قتادة‏:‏ معناه‏:‏ حالهم، وقال ابن عباس‏:‏ شأنهم‏.‏

وتحريرُ التفسيرِ في اللفظة أَنَّها بمعنى الفِكْرِ والموضعِ الذي فيه نظرُ الإنْسَانِ، وهو القلب، فإذا صَلُحَ ذلك منه، فقد صَلُحَ حالُهُ، فكأَنَّ اللفظة مُشِيرَةٌ إلى صلاح عقيدتهم، وغيرُ ذلك من الحال تَابِعٌ، فقولك‏:‏ خَطَرَ في بالي كذا، وقولك‏:‏ أصْلَحَ اللَّهُ بَالَكَ‏:‏ المرادُ بهما واحدٌ؛ ذكره المُبَرِّدُ،، والبَالُ‏:‏ مصدر كالحال والشأن، ولا يُسْتَعْمَلُ منه فِعْلٌ، وكذلك عُرْفُهُ لا يثنى ولا يُجْمَعُ، وقد جاء مجموعاً شاذًّا في قولهم‏:‏ «بَالاَت»‏.‏

و ‏{‏الباطل‏}‏ هنا‏:‏ الشيطانُ، وكُلُّ ما يأمر به؛ قاله مجاهد، و‏{‏الحق‏}‏ هنا‏:‏ الشَّرْعُ ومحمَّد عليه السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يَضْرِبُ الله‏}‏‏:‏ الإشارة إلى الأتباع المذكورينَ من الفريقَيْنِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏4‏)‏ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ‏(‏5‏)‏ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏8‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏9‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال أَكْثَرُ العلماءِ‏:‏ إنَّ هذه الآية وآيةَ السَّيْفِ، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ مُحْكَمَتَانِ، فقوله هنا‏:‏ ‏{‏فَضَرْبَ الرقاب‏}‏ بمثابة قوله هنالك‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏، وصرَّح هنا بذكر المَنِّ والفداء، ولم يُصَرِّحْ به هنالك، فهذه مُبَيِّنَةٌ لِتِلْكَ، وهذا هو القولُ القويُّ، وقوله‏:‏ ‏{‏فَضَرْبَ الرقاب‏}‏ مصدر بمعنى الفِعْل، أي‏:‏ فاضربوا رقابهم وعَيَّنَ مِنْ أنواع القَتْلِ أَشْهَرَهُ، والمراد‏:‏ اقتلوهم بأَيِّ وجه أَمكَنَ؛ وفي صحيح مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلهُ في النَّارِ أَبَداً ‏"‏ وفي «صحيح البخاري» عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَتَمَسَّهُ النَّارُ ‏"‏ انتهى‏.‏

والإثخان في القوم أنْ يكثر فيهم القتلى والجرحى، ومعنى‏:‏ ‏{‏فَشُدُّواْ الوثاق‏}‏ أي‏:‏ بمن لم يُقْتَلْ، ولم يترتَّب فيه إلاَّ الأسْرُ، ومَنًّا وفِدَاءً‏:‏ مصدران منصوبانِ بفعلَيْن مُضْمَرَيْنِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا‏}‏ معناه‏:‏ حتى تذهبَ الحربُ وتزولَ أثقالُهَا، والأوزار‏:‏ الأثقال؛ ومنه قول عَمْرِو بنِ مَعْدِ يكرِبَ‏:‏ ‏[‏من المتقارب‏]‏

وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا *** رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُورَا

واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تضع الحربُ أوزارها، فقال قتادة‏:‏ حتى يُسَلِّمَ الجميعُ، وقال حُذَّاقُ أهل النظر‏:‏ حتى تغلبوهم وتَقْتُلُوهُمْ، وقال مجاهد‏:‏ حتى ينزلَ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ، قال * ع*‏:‏ وظاهر اللفظ أَنَّهُ استعارةٌ يُرَادُ بها التزامُ الأمْرِ أبداً؛ وذلك أَنَّ الحربَ بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول‏:‏ أنا أفعل كذا وكذا إلى يَوْمِ القيامةِ، وإنَّما تريد أَنَّك تفعله دائماً‏.‏

‏{‏وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بعذابٍ مِنْ عنده، ولكن أراد سبحانه اختبار المؤمنين، وأنْ يَبْلُوَ بعضَ الناس ببعضٍ، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏قَاتَلُواْ‏}‏ وقرأ عاصم بخلاف عنه‏:‏ ‏{‏قاتلوا‏}‏ بفتح القاف والتاء، وقرأ أبو عمرو وحَفْصٌ‏:‏ ‏{‏قاتلوا‏}‏ بضم القاف وكسر التاء، قال قتادة‏:‏ نزلَتْ هذه الآيةُ فيمَنْ قُتِلَ يوم أُحُدٍ من المؤمنين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَيَهْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ إلى طريقِ الجَنَّةِ‏.‏

* ت *‏:‏ ذكر الشيخ أبو نُعَيْمٍ الحافظُ أنَّ مَيْسَرَةَ الخادمَ قال‏:‏ غزونا في بعض الغَزَوَاتِ، فإذا فتًى إلى جانِبي، وإذا هو مُقَنَّعٌ بالحديد، فَحَمَلَ على المَيْمَنَةِ، فَثَنَاها، ثُمَّ على المَيْسَرَةِ حتى ثَنَاهَا، وحَمَلَ عَلَى القَلْبِ حتى ثناه، ثم أنشأ يقول ‏[‏الرجز‏]‏

أَحْسِنْ بِمَوْلاَكَ سَعِيدُ ظَنَّا *** هَذا الَّذِي كُنْتَ لَهُ تمنى

تَنَحِّ يَا حُورَ الْجِنَانِ عَنَّا *** مَالَكِ قَاتَلْنَا وَلاَ قُتِلْنَا

لَكِنْ إلى سَيِّدِكُنَّ اشتقنا *** قَدْ عَلِمَ السِّرَّ وَمَا أَعْلَنَّا

قال‏:‏ فحمل، فقاتل، فَقَتَلَ منهم عدداً، ثم رَجَعَ إلى مَصَافِّهِ، فتكالَبَ عليه العَدُوُّ، فإذا هو رضي اللَّه تعالى عنه قد حمل على الناس، وأنشأ يقول‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

قَدْ كُنْتُ أَرْجُو وَرَجَائِي لَمْ يَخِبْ *** أَلاَّ يَضِيعَ الْيَوْمَ كَدِّي وَالطَّلَبْ

يَا مَنْ مَلاَ تِلْكَ الْقُصُورَ باللُّعَبْ *** لَوْلاَكَ مَا طَابَتْ وَلا طَابَ الطَّرَبْ

ثم حَمَلَ رضي اللَّه عنه فقاتل، فَقَتَلَ منهم عَدَداً، ثم رجع إلى مَصَافِّه، فتكالَبَ عليه العَدُوُّ فحَمَلَ رضي اللَّه عنه في المرة الثالثة، وأنشأ يقول‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

يَا لُعْبَةَ الخُلْدِ قِفِي ثُمَّ اسمعي *** مَالَكِ قَاتَلْنَا فَكُفِّي وارجعي

ثُمَّ ارجعي إلَى الْجِنَانِ واسرعي *** لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي

فقاتل رضي اللَّه عنه حتى قُتِلَ،، انتهى من ابن عَبَّاد شارح «الحِكَم»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ قال أبو سعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وقتادة، ومجاهد‏:‏ معناه‏:‏ بَيَّنَهَا لهم، أي‏:‏ جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لأَحَدُكُمْ بِمَنْزِلِهِ في الجَنَّة أَعْرَفُ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ في الدّنْيَا ‏"‏ قال القرطبيُّ في «التذكرة»‏:‏ وعلى هذا القولِ أكثرُ المفسِّرين قال‏:‏ وقيل‏:‏ إنَّ هذا التعريفَ إلى المنازِلِ هو بالدليلِ، وهو المَلَكُ المُوَكَّلُ بِعَمَلِ العَبْدِ، يمشي بين يَدَيْهِ،، انتهى، وقالت فرقة‏:‏ معناه‏:‏ سَمَّاها لهم، ورَسَمَهَا كُلُّ منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف، وقالت فرقة‏:‏ معناه شَرَّفَهَا لهم ورفعها وعلاَّها، وهذا من الأَعْرَافِ التي هي الجبال، ومنه أعرافُ الخَيْلِ، وقال مُؤَرِّجٌ وغيره‏:‏ معناه‏:‏ طَيَّبَهَا؛ مأخوذٌ من العَرْفِ، ومنه طَعَامٌ مُعَرَّفٌ، أي‏:‏ مُطَيَّبٌ، وعَرَّفْتُ القِدْرَ‏:‏ طَيَّبْتُها بالمِلْحِ والتَّابِلِ، قال أبو حيَّان‏:‏ «وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ» البال‏:‏ الفِكْرُ ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن تَنصُرُواْ الله‏}‏ أي‏:‏ دينَ اللَّه ‏{‏يَنصُرْكُمْ‏}‏ بخلق القوَّةِ لكم وغَيْرِ ذلك من المعاون، ‏{‏وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ في مواطن الحَرْبِ، وقيل‏:‏ على الصراط في القيامة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَعْساً لَّهُمْ‏}‏ معناه‏:‏ عِثَاراً وهَلاَكاً لهم، وهي لفظة تقالُ للعَاثِرِ، إذا أُرِيدَ به الشَّرُّ؛ قال ابن السِّكِّيتِ‏:‏ التَّعْسُ‏:‏ أنْ يَخِرَّ على وجهه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ الله‏}‏ يريد‏:‏ القرآن ‏{‏فَأَحْبَطَ أعمالهم‏}‏ قال * ع *‏:‏ ولا خلافَ أَنَّ الكافر له حَفَظَةٌ يكتبون سَيِّئاتِهِ، واختلف الناسُ في حَسَنَاتِهِمْ، فقالت فرقة‏:‏ هي مُلْغَاةٌ يثابُونَ عليها بِنِعَمِ الدنيا فقَطْ، وقالت فرقة‏:‏ هي مُحْصَاةٌ من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أَنَّهُ قد يُسْلِمُ فينضافُ ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحدُ التأويلَيْنِ في قوله صلى الله عليه وسلم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ‏:‏ ‏"‏ أَسْلَمْتَ على مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ‏(‏10‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض‏}‏‏:‏ توقيف لقريش، وتوبيخٌ و‏{‏الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ يريدُ‏:‏ ثمودَ وقَوْمَ شُعَيْبٍ وغيرهم، والدمار‏:‏ الإفساد، وهَدْمُ البناء، وإذهابُ العُمْرَانِ، والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏أمثالها‏}‏ يَصِحُّ أَنْ يعودَ على العَاقِبَةِ، ويَصِحُّ أَنْ يعود على الفَعْلَةِ التي يتضمَّنها قوله‏:‏ ‏{‏دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين ءَامَنُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، المَوْلَى‏:‏ الناصِرُ المُوَالِي، قال قتادة‏:‏ نزلَتْ هذه الآيةُ يَوْمَ أُحُدٍ، ومنها انتزع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَدَّهُ على أبي سُفْيَانَ حينَ قال‏:‏ «قُولُوا‏:‏ اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مولى لَكُمْ»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام‏}‏ أي‏:‏ أكلاً مجرَّداً عن الفِكْرِ والنظر، وهذا كما تقول‏:‏ الجاهلُ يعيشُ كما تعيشُ البهيمةُ، والمعنى‏:‏ يعيشُ عَدِيمَ الفَهْمِ والنَّظَرِ في العَوَاقِبِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ‏(‏13‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏14‏)‏ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ‏(‏15‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ‏}‏ يعني‏:‏ مَكَّة ‏{‏التى أَخْرَجَتْكَ‏}‏ معناه‏:‏ وَقْتَ الهِجْرَةِ، ويقال‏:‏ إنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ إثْرَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من مَكَّةَ، وقيل غَيْرُ هذا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، توقيفٌ وتقريرٌ، وهي معادلةٌ بين هذَيْن الفريقَيْن، اللفظ عامٌّ لأهل هاتين الصفتين غابرَ الدَّهْرِ، و‏{‏على بَيِّنَةٍ‏}‏ أي‏:‏ على يقين وطريق واضحةٍ وعقيدة نَيِّرَةٍ بَيِّنَةٍ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الجنة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ وغيره ‏{‏مَثَلُ‏}‏ معناه‏:‏ صفةٌ؛ كأَنَّهُ قال‏:‏ صفة الجنة‏:‏ ما تسمَعُونَ فيها كذا وكذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ‏}‏ معناه‏:‏ غيرُ مُتَغَيِّرٍ؛ قاله ابن عباس وقتادة، وسواءٌ أنتن أو لم يُنْتِنْ‏.‏

وقوله في اللبن‏:‏ ‏{‏لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ‏}‏‏:‏ نَفْيٌ لجميعِ وجوهِ الفَسَادِ فيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَذَّةٍ للشاربين‏}‏ جمعتْ طِيبَ الطَّعْمِ وَزَوالَ الآفاتِ من الصُّدَاعِ وغيره، وتصفيةُ العَسَلِ مُذْهِبَةٌ لمومه وَضَرَره‏.‏

* ت *‏:‏ ورُوِّينَا في كتاب التِّرْمِذِيِّ عن حَكِيمِ بن مُعَاوِيَةَ عنِ أبيه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنَّ في الجَنَّةِ بَحْرَ المَاءِ، وَبَحْرَ الْعَسَلِ، وَبَحْرَ اللَّبَنِ، وَبَحْرَ الخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الأَنْهَارُ بَعْدُ» قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات‏}‏ أي‏:‏ من هذه الأنواع لكنها بعيدة الشبه؛ تلك لا عَيْبَ فيها ولا تَعَبَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ‏}‏ معناه‏:‏ وتنعيمٌ أعطته المغفرةُ وَسَّبَّبَتْهُ، وإلاَّ فالمغفرة إنَّما هي قبل دخول الجَنَّةِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قبله محذوفٌ، تقديره‏:‏ أَسُكَّانُ هذه، أو تقديره‏:‏ أهؤلاءِ المتقون كَمَنْ هو خالد في النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 21‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ‏(‏17‏)‏ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ‏(‏18‏)‏ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ‏(‏19‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ‏(‏20‏)‏ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ‏(‏21‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ‏}‏ يعني بذلك‏:‏ المنافقين ‏{‏حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ ءَانِفاً‏}‏؛ عَلَى جِهَةِ الاسْتِخْفَاف، ومنهم مَنْ يقوله جهالةً ونسياناً، و‏{‏ءَانِفاً‏}‏ معناه‏:‏ مبتدئاً، كأَنَّه قال‏:‏ ما القولُ الذي ائتنفه الآنَ قَبْلَ انفصالنا عَنْهُ، والمفسِّرون يقولون‏:‏ ‏{‏ءَانِفاً‏}‏ معناه‏:‏ الساعةَ الماضيةَ، وهذا تفسيرٌ بالمعنى‏.‏

* ت *‏:‏ وقال الثعلبيُّ‏:‏ ‏{‏ءَانِفاً‏}‏ أي‏:‏ الآنَ، وأصله الابتداء، قال أبو حَيَّان‏:‏ ‏{‏ءَانِفاً‏}‏ بالمدِّ والقَصْرِ‏:‏ اسمُ فاعِل، والمُسْتَعْمَلُ من فعله‏:‏ ائتنفت، ومعنى‏:‏ ‏{‏ءَانِفاً‏}‏ مبتدئاً، فهو منصوبٌ على الحال، وأعربه الزَّمْخَشْرِيُّ ظَرْفاً، أي‏:‏ الساعةَ، قال أبو حَيَّان‏:‏ ولا أعلم أحداً من النحاة عَدَّه مِنَ الظُّرُوفِ، انتهى، وقال العِرَاقِيُّ‏:‏ ‏{‏ءَانِفاً‏}‏ أي‏:‏ الساعة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ أي‏:‏ زادهم اللَّه هدى، ويحتمل‏:‏ زادهم استهزاءُ المنافقين هُدًى، قال الثعلبيُّ‏:‏ وقيل‏:‏ زَادَهُمْ ما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم هُدًى؛ قال * ع *‏:‏ الفاعل في ‏{‏وأتاهم‏}‏ يتصرَّفُ القولُ فيه بحسب التأويلاتِ المذكورةِ، وأقواها أنَّ الفاعِلَ اللَّهُ تعالى، ‏{‏وأتاهم‏}‏ معناه‏:‏ أعطَاهُمْ، أي‏:‏ جعلهم مُتَّقِينَ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ يريد‏:‏ المنافقين، والمعنى‏:‏ فهل يَنْتَظِرُونَ‏؟‏ و‏{‏بَغْتَةً‏}‏ معناه فجأة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا‏}‏ أي‏:‏ فينبغي الاستعدادُ والخوفُ منها، والذي جاء من أشراط الساعة‏:‏ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّه آخر الأنبياء، وقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ ‏"‏ والأحاديثُ كثيرةٌ في هذا الباب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ إضرابٌ عن أمْرِ هؤلاء المنافقين، وذكر الأَهَمِّ من الأمر، والمعنى‏:‏ دُمْ على عِلْمِكَ، وهذا هو القانُونُ في كُلَّ مَنْ أُمِرَ بشيْء هو مُتَلَبِّسٌ به، وكُلُّ واحدٍ مِنَ الأُمَّةِ داخلٌ في هذا الخِطابِ، وعن أبي هريرةَ قال‏:‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا قَالَ عَبْدُ‏:‏ لاَ إله إلاَّ اللَّهُ مُخْلِصاً، إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، حتى تُفْضِيَ إلَى الْعَرْشِ مَا اجتنبت الكَبَائِرُ ‏"‏، رواه الترمذي والنسائيُّ، وقال الترمذيُّ واللفظ له‏:‏ حديث حسن غريب، انتهى من «السلاح»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفر لِذَنبِكَ‏}‏ أي‏:‏ لِتَسْتَنَّ أُمَّتُكَ بِسُنَّتِكَ‏.‏

* ت *‏:‏ هذا لفظ الثعلبيِّ، وهو حَسَنٌ، وقال عِيَاضٌ‏:‏ قال مَكِّيٌّ‏:‏ مخاطبةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ههنا هي مخاطبةٌ لأُمَّتِهِ، انتهى‏.‏

قال * ع *‏:‏ وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَليَسْتَغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ‏"‏ وبَوَّبَ البخاريُّ رحمه اللَّه العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفر لِذَنبِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ وواجبٌ على كل مؤمن أنْ يستغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ فإنَّها صَدَقَةٌ، وقال الطبريُّ وغيره‏:‏ ‏{‏مُتَقَلَّبَكُمْ‏}‏‏:‏ مُتَصَرَّفَكُمْ في يقظتكم ‏{‏وَمَثْوَاكُمْ‏}‏ منامكم، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏مُتَقَلَّبَكُمْ‏}‏ تَصَرُّفُكُمْ في حياتكم الدنيا ‏{‏وَمَثْوَاكُمْ‏}‏‏:‏ إقامتكم في قبوركم، وفي آخرتكم‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الذين ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا ابتداءُ وَصْفِ حالِ المؤمنينَ؛ على جهة المَدْحِ لهم، ووصفِ حالِ المنافقين؛ على جهة الذَّمِّ؛ وذلك أَنَّ المؤمنين كان حرصهم على الدين يبعثهم على تَمَنِّي ظهور الإسلامِ وتمنِّي قتال العدوِّ، وكانوا يأنسونَ بالوحي، ويستوحشون إذا أبطأ، وكان المنافقون على العكس من ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مُّحْكَمَةٌ‏}‏ معناه‏:‏ لا يقعُ فيها نسخ، وأَمَّا الإحكام الذي هو الإتقان، فالقرآن كلُّه سواءٌ فيه، والمرض الذي في قلوب المنافقين هو فَسَادُ مُعْتَقَدِهِمْ، ونظر الخائف المولَّه قريبٌ من نظر المَغْشِيِّ عليه، وَخَسَّسَهُمْ هذا الوصف والتشبيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولى لَهُمْ * طَاعَةٌ‏}‏ «أولى»‏:‏ وزنها أَفْعَلُ، من وَلِيَكَ الشَّيْءُ يَلِيكَ، والمشهورُ من استعمال أولى أَنَّك تقول‏:‏ هذا أولى بك من هذا، أي‏:‏ أَحَقُّ، وقد تَسْتَعْمِلُ العرب «أولى لكِ» فقطْ على جهة الاختصار، لما معها من القول على جهة الزَّجْرِ والتَّوَعُّدِ، فتقول‏:‏ أولى لَكَ يا فُلاَنُ، وهذه الآية من هذا الباب؛ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولى لَكَ فأولى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 34‏]‏ وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏فأولى‏}‏ رُفِعَ بالابتداء، و‏{‏طَاعَةٌ‏}‏ خبره، قال * ع *‏:‏ وهذا هو المشهورُ منِ استعمال «أولى»، وقيل غير هذا، قال أبو حيَّان‏:‏ قال صاحب «الصِّحَاحِ»‏:‏ ‏{‏أولى لَكَ‏}‏‏:‏ تهديدٌ ووعيدٌ، قال أبو حَيَّان‏:‏ والأكثر على أَنَّه اسم مُشْتَقٌّ من الوَلي، وهو القُرْبُ، وقال الجُرْجَانِيُّ‏:‏ هو مأخوذ من الوَيْلِ، فَقُلِبَ، فوزنه «أَفْلَعْ»، انتهى‏.‏

‏{‏فَإِذَا عَزَمَ الأمر‏}‏‏:‏ ناقضوا وعصَوْا، قال البخاريُّ‏:‏ قال مجاهد‏:‏ ‏{‏عَزَمَ الأمر‏}‏ جَدَّ الأَمْرُ‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ‏(‏22‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ‏(‏23‏)‏ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ‏(‏24‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ‏}‏ مخاطبةٌ لهؤلاءِ الذينَ في قلوبهم مرضٌ، والمعنى‏:‏ فهل عسى أَنْ تفعلُوا إنْ تولَّيتم غيرَ أنْ تُفْسِدُوا في الأرض، وتُقَطِّعُوا أرحامكم، ومعنى ‏{‏إِن تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ إنْ أعرضتم عن الحَقِّ، وقيل المعنى‏:‏ إنْ توليتم أمور الناس من الولاية؛ وعلى هذا قيل‏:‏ إنَّها نزلَتْ في بني هاشِمٍ، وبني أُمَيَّةَ ذكره الثعلبيُّ‏.‏

* ت *‏:‏ وهو عندي بعيدٌ لقوله‏:‏ ‏{‏أَوْلَئِكَ الذين لَعَنَهُمُ الله‏}‏ فتعيَّن التأويل الأَوَّل، واللَّه أعلم‏.‏

وفي البخاريِّ عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ ‏"‏ يعني‏:‏ قاطعَ رحِمٍ، وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ فَليَصِلْ رَحِمَهُ ‏"‏ اه، وفي «صحيح مسلم» عن عائشةَ قالَتْ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ‏:‏ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ ‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ ‏"‏ وفي طريق‏:‏ ‏"‏ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَيُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ‏"‏ وخرَّجه البخاريُّ من طريق أبي هريرةَ؛ على ما تقدَّم، وخرَّج البخاريُّ عن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ، حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ‏:‏ هَذَا مُقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكَ، وأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكَ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ بلى يَا رَبِّ، قَالَ‏:‏ فَهُوَ لَكِ، قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ فَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ‏}‏ ‏"‏ وفي رواية‏:‏ قال الله‏:‏ ‏"‏ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ ‏"‏ انتهى‏.‏

وروى أبو داودَ في «سُنَنِهِ» عن عبد الرحمن بن عَوْفٍ قال‏:‏ سمعتُ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ أنا الرحمن، وَهِيَ الرَّحِمُ شَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْلَئِكَ الذين لَعَنَهُمُ الله‏}‏ إشارة إلى المرضى القلوب المذكورين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أبصارهم‏}‏‏:‏ استعارةٌ لعدم فهمهم‏.‏

وقوله عزَّ منْ قائِلٍ‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ توقيفٌ وتوبيخٌ، وتَدَبُّرُ القرآن زعيم بالتبيين والهدى لمتأمِّله‏.‏

* ت *‏:‏ قال الهرويُّ‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان‏}‏ معناه‏:‏ أفلا يتفكَّرُون فيعتبرون؛ يُقَالُ‏:‏ تَدَبَّرْتُ الأمر‏:‏ إذا نظرتَ في أدباره وعواقبه، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ معناه‏:‏ بل على قلوب أَقفالها، وهو الرَّيْنُ الذي منعهم من الإيمان، ورُوِيَ أَنَّ وَفْدَ اليَمَنِ وَفَدَ على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهمْ شَابٌّ، فقرأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآيةَ، فقال الفتى‏:‏ عَلَيْهَا أَقْفَالُهَا حتى يَفْتَحَها اللَّهُ تعالى ويُفَرِّجَهَا، قَالَ عُمَرُ‏:‏ فَعَظُمَ في عَيْنِي، فما زَالَتْ في نَفْس عُمَرَ- رضي اللَّه عنه- حتى وَلِيَ الخلاَفَة فاستعان بِذَلِكَ الفتى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ‏(‏26‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏28‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ‏(‏29‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال قتادة‏:‏ نزلَتْ في قَوْمٍ من اليهود، وقال ابن عباس وغيره‏:‏ نَزَلَتْ في منافقين كانوا أَسْلَمُوا، ثم نافَقَتْ قُلُوبُهُم، والآيةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ دخل في ضمن لفظها غَابِرَ الدَّهْرِ، و‏{‏سَوَّلَ‏}‏ معناه‏:‏ رجَّاهم سؤلهم وأمانِيهم، ونقل أبو الفتح عن بعضهم؛ أَنَّهُ بمعنى دلاَّهم مأخوذٌ من السَّوَلِ، وهو الاسترخاء والتَّدَلِّي، وقال العراقيُّ ‏{‏سَوَّلَ‏}‏ أي‏:‏ زَيَّنَ سُوءَ الفعل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قيل‏:‏ إنَّها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدَّم ذِكْرُهم الآن، ورُوِيَ أَنَّ قوماً من قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ كانوا يَعِدُونَ المنافقين في أمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والخلافِ علَيْهِ بنَصْرٍ ومؤازرةٍ؛ فذلك قولهم‏:‏ ‏{‏سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأمر‏}‏ وقرأ الجمهور‏:‏ «أَسْرَارَهُمْ» بفتح الهمزة، وقرأ حمزة والكسائيُّ وحفص‏:‏ «إسْرَارَهُمْ» بكسرها‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة‏}‏ يَعْنِي‏:‏ مَلَكَ المَوْتِ وأعوانه، والضمير في ‏{‏يَضْرِبُونَ‏}‏ للملائكة، وفي نحو هذا أحاديثُ تقتضي صفة الحالِ، و‏{‏مَا * أَسْخَطَ الله‏}‏‏:‏ هو الكفر، والرِّضْوَانُ‏:‏ هنا الحَقُّ والشَّرْعُ المُؤَدِّي إلى الرضوان‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، توبيخٍ للمنافقين وَفَضْحٌ لسرائرهم، والضِّغْنُ‏:‏ الحقد، وقال البخاريُّ‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ «أَضْغَانَهُمْ» حَسَدَهُمْ، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏30‏)‏ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏(‏31‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لأريناكهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، لم يُعَيِّنْهُم سبحانه بالأسماء والتعريف التامّ؛ إبقاءً عليهم وعلى قراباتهم، وإنْ كانوا قد عُرِفُوا بلحن القول، وكانوا في الاشتهار على مراتبَ كابنِ أُبَيٍّ وغيره، والسِّيما‏:‏ العلامة، وقال ابن عباس والضَّحَّاكُ‏:‏ إنَّ اللَّه تعالى قد عَرَّفَهُ بهم في سورة براءة بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوًّا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 83‏]‏ قال * ع *‏:‏ وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تامٍّ، ثم أخبر تعالى أَنَّهُ سيعرفهم في لحن القول، أي‏:‏ في مذهب القول ومنحاه ومَقْصِدهِ، واحتجَّ بهذه الآية مَنْ جعل الحَدَّ في التعريض بالقذف‏.‏

* ص *‏:‏ قال أبو حيان‏:‏ «ولتعرفنهم» اللام جواب قسم محذوف، انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ أعمالكم‏}‏ مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، كان الفُضَيْلُ بن عِيَاضٍ إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال‏:‏ اللهم لا تبتلنا فإنك إنْ بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَاقُّواْ الرسول‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قالت فرقة‏:‏ نزلت في بني إسرائيل، وقالت فرقة‏:‏ نَزَلَتْ في قوم من المنافقين، وهذا نحو ما تقدم، وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في المطعمين في سفرة بدر، وقالت فرقة‏:‏ بل هِي عامَّةٌ في كل كافر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً‏}‏ تحقيرٌ لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ‏(‏34‏)‏ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏35‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم‏}‏ رَوِيَ أَنَّ هذه الآية نزلت في بني أَسَدٍ من العرب، وذلك أَنَّهم أسلموا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نحن آثرناك على كُلِّ شيء، وجئناك بأنفسنا وأهلينا، كأَنَّهم يمنُّون بذلك، فنزل فيهم‏:‏ ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ونزلت فيهم هذه الآية وظاهر الآية العموم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ‏"‏ رُوِيَ أَنَّها نزلت بسبب أَنَّ عديَّ بن حاتم قال‏:‏ يا رسول اللَّه، إنَّ حَاتِماً كَانَتْ لَهُ أَفْعَالُ بِرٍّ فَمَا حَالُهُ‏؟‏ فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هُوَ في النَّارِ فَبَكَى عَدِيُّ، وَوَلَّى فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ‏:‏ «أَبي وَأَبُوكَ وَأَبُو إبْراهِيمَ خَلِيلِ الرحمن في النَّارِ» ‏"‏ ونزلت هذه الآية في ذلك، وظاهر الآية العموم في كُلِّ ما تناوَلته الصفة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَهِنُواْ‏}‏ معناه‏:‏ لا تَضْعُفُوا ‏{‏وَتَدْعُواْ إِلَى السلم‏}‏ أي‏:‏ إلى المسالمة، وقال قتادة‏:‏ معنى الآية‏:‏ لا تكونوا أُولَى الطائفتين ضَرَعَتْ للأخرَى‏:‏ قال * ع * وهذا حَسَنٌ مُلْتئِمٌ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 61‏]‏‏.‏

‏{‏وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ‏}‏‏:‏ في موضع الحال، المعنى‏:‏ فلا تَهِنُوا وأنتم في هذه الحال، ويحتمل أنْ يكون إخباراً بمغيب أبرزه الوجودُ بعد ذلك، والأعلون‏:‏ معناه الغالبون والظاهرون من العُلُوِّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله مَعَكُمْ‏}‏ معناه‏:‏ بنصره ومَعُونَتِهِ وَيتِرُ معناهُ‏:‏ يُنْقِصُ ويُذْهِبُ، والمعنى‏:‏ لن يَترِكم ثوابَ أعمالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ‏(‏36‏)‏ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ‏(‏37‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ‏(‏38‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ تحقير لأمر الدنيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ‏}‏ معناه‏:‏ هذا هو المطلوب منكم، لا غيره؛ لا تُسْأَلُون أموالكم، ثم قال سبحانهُ مُنَبِّهاً على خُلق ابن آدم‏:‏ ‏{‏إِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ‏}‏ والإحفاء هو أشدُّ السؤال، وهو الذي يَسْتَخْرِجُ ما عند المسؤول كرهاً‏.‏

* ت *‏:‏ وقال الثعلبيُّ‏:‏ «فيحفكم» أي‏:‏ يجهدكم ويلحف عليكم‏.‏

وقوله‏:‏ «تبخلوا» جزماً على جواب الشرط «ويخرج أضغانكم» أي‏:‏ يخرج اللَّه أضغانكم، وقرأ يعقوب‏:‏ «وَنُخْرِجْ» بالنون، والأضغان‏:‏ مُعْتَقَدَاتُ السوء، وهو الذي كان يخاف أنْ يعترِيَ المسلمين، ثم وقف اللَّه تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم بقوله‏:‏ ‏{‏هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ‏}‏ وكرر «هاء» التنبيه؛ تأكيداً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالثواب ‏{‏والله الغنى‏}‏ أي‏:‏ عن صدقاتكم ‏{‏وَأَنتُمُ الفقراء‏}‏ إلى ثوابها‏.‏

* ت *‏:‏ هذا لفظ الثعلبيِّ، قال * ع *‏:‏ يقال‏:‏ بَخِلْتُ عليك بكذا، وبخلت عنك بمعنى أمسكت عنك، وروى التِّرْمِذِيُّ عن أبي هريرةَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ ‏"‏، قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ غريب، انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإنْ تَتَولَّوا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ‏}‏ قالت فرقة‏:‏ هذا الخطاب لجميعِ المسلمين والمشركين والعرب حينئذٍ، والقوم الغير هم فارس، وروى أبو هريرةَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ هذا وَكَانَ سَلْمَانُ إلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ قَوْمُ هَذَا؛ لَوْ كَانَ الدِّينُ في الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ ‏"‏‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ‏}‏ معناه‏:‏ في الخلاف والتوَلى والبُخْلِ بالأموال ونحوِ هذا، وحكى الثعلبيُّ قولاً أَنَّ القوم الغير هم الملائكة‏.‏

* ت *‏:‏ وليس لأحد مع الحديث‏:‏ إذا صَحَّ نظر، ولولا الحديثُ لاحتمل أن يكون الغير ما يأتي من الخَلَفِ بعد ذهاب السَّلَفِ، على ما ذكر في غير هذا الموضع‏.‏

سورة الفتح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏(‏1‏)‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏2‏)‏ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال قوم‏:‏ يريد فَتْحَ مَكَّةَ، وقال جمهور الناس، وهو الصحيح الذي تَعْضُدُهُ قصة الحديبية‏:‏ إنَّ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ‏}‏ إنَّما معناه هو ما يَسَرَّ اللَّه عز وجل لنبيِّه في تلك الخرجة من الفتح البَيِّنِ الذي استقبله، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين؛ لأَنَّهم كانوا استوحشوا من رَدِّ قريشٍ لهم ومن تلك المهادنة التي جعلها اللَّه سبباً للفتوحات، واستقبل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة أَنَّهُ هَادَنَ عَدوَّه ريثما يَتَقَوَّى هو، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية؛ حيث وضع فيه سهمه، وثاب الماء حتى كَفَى الجيش، واتَّفَقَتْ بيعةُ الرضوان، وهي الفتح الأعظم؛ قاله جابر بن عبد اللَّه والبَرَاءُ بن عازب، وبلغ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ؛ قاله الشَّعْبِيُّ، واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين، وظهرت في ذلك الوقت الروم على فارس، فكانت من جملة الفتح؛ فَسُرَّ بها صلى الله عليه وسلم هو والمؤمنون؛ لظهور أهل الكتاب على المجوس، وشَرَّفَه اللَّه بأنْ أخبره أَنَّه قد غفر له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأَخَّرَ، أي‏:‏ وإِنْ لم يكن ذنب‏.‏

* ت *‏:‏ قال الثعلبيُّ‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ‏}‏ قال أبو حاتم‏:‏ هذه لام القسم، لما حُذِفَتِ النون من فعله كُسِرَتْ، ونُصِبَ فعلها؛ تشبيهاً بلام «كي»، انتهى‏.‏

قال عياض‏:‏ ومقصد الآية أَنَّك مغفور لك، غيرَ مؤاخذ بذنب، إنْ لو كان، انتهى‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ «لِيَغْفِرَ» اللام لِلْعِلَّةِ، وقال * ع *‏:‏ هي لام الصيرورة، وقيل‏:‏ هي لام القسم، ورُدَّ بأنَّ لام القسم لا تُكْسَرُ وَلا يُنْصَبُ بها، وأُجِيبَ بأَنَّ الكَسْرَ قد عُلِّلَ بالحمل على «لام كي» وأَمَّا الحركة فليست نصباً؛ بل هي الفتحة الموجودة مع النون، بَقِيَتْ بعد حذفها دَالَّةً على المحذوف، ورُدَّ باَّنَّهُ لم يُحْفَظْ من كلامهم‏:‏ واللَّهِ ليقوم ولا باللَّه ليخرج زيد، انتهى‏.‏

وفي صحيح البخاريِّ عن أنس بن مالك‏:‏ ‏"‏ إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً ‏"‏ الحديبية، انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ بإظهارك وتغليبك على عَدُوِّك، والرُّضْوَانُ في الآخرة والسَّكِينَةُ فعيلة من السكون، وهو تسكين قلوبهم لتلك الهُدْنَةِ مع قريش حتَّى اطمأَنَّتْ، وعلموا أَنَّ وعد اللَّه حق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏5‏)‏ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏6‏)‏ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، رُوِيَ في معنى هذه الآية أَنَّه لَمَّا نزلت‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏ تَكَلَّمَ فيها أهل الكفر، وقالوا‏:‏ كيف نَتَّبِعُ مَنْ لا يعرف ما يُفْعلَلُ به وبالناس‏؟‏‏!‏ فَبَيَّنَ اللَّه في هذه السورة ما يفعل به بقوله‏:‏ ‏{‏لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ فَلَمَّا سمعها المؤمنون قالوا‏:‏ هنيئاً لك يا رسول اللَّه، لقد بَيَّنَ اللَّه لك ما يفعل بك، فما يفعل بنا‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَصِيراً‏}‏ فعرَّفه اللَّه ما يفعل به وبالمؤمنين وبالكافرين، وذكر النقاش أَنَّ رجلاً من «عَكَّ» قال‏:‏ هذا الذي لرسول اللَّه، فما لنا‏؟‏ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هِيَ لِي وَلامَّتِي كَهَاتَيْنِ، وَجَمَعَ بَيْنَ إصْبَعَيْهِ ‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم‏}‏ هو من ترتيب الجمل في السرد، لا ترتيب وقوع معانيها؛ لأَنَّ تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الظانين بالله ظَنَّ السوء‏}‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ من قولهم‏:‏ ‏{‏لَّن يَنقَلِبَ الرسول‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 12‏]‏ الآية، وقيل‏:‏ هو كونهم يعتقدون اللَّه بغير صفاته العلى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ دائرة السوء‏]‏ الذي أرادوه بكم في ظَنِّهم السوءَ، ويقال للأقدار والحوادث التي هي في طَيِّ الزمان‏:‏ دائرة، لأَنَّها تدور بدوران الزمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏8‏)‏ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا أرسلناك شَاهِداً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، مَنْ جعل الشاهِدَ مُحَصِّلَ الشهادة من يوم يحصلها، فقوله‏:‏ ‏{‏شاهدا‏}‏ حال واقعة، ومَنْ جعل الشاهد مُؤَدِّي الشهادةَ فهي حال مستقبلة، وهي التي يسميها النحاة المُقَدَّرَةَ، والمعنى‏:‏ شاهداً على الناس بأعمالهم، وأقوالهم حين بَلَّغْتَ، ‏{‏وَمُبَشِّراً‏}‏‏:‏ أهلَ الطاعة برحمة اللَّه، ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏‏:‏ من عذاب اللَّه أهلَ المعصية، ومعنى ‏{‏وَتُعَزِّرُوهُ‏}‏ تعظموه وتكبروه؛ قاله ابن عباس، وقرأ ابن عباس وغيره‏:‏ ‏{‏وَتُعَزِّزُوهُ‏}‏ بزاءين من العِزَّةِ، قال الجمهور‏:‏ الضمير في ‏{‏وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ‏}‏ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي ‏{‏وَتُسَبِّحُوهُ‏}‏ للَّه عز وجل، والبُكْرَةُ‏:‏ الغُدُوَّ، والأصيل‏:‏ العَشِيُّ‏.‏